الثلاثاء، 27 يناير 2015

الشيخ عبد العزيز ابن باز رحمه الله

أسئلة وأجوبة عن بر الوالدين، وما ينفع الميت بعد موته
وزيارة القبور، والأذكار الشرعية، والصلوات
( الجزء رقم : 8، الصفحة رقم: 309)
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إِلى حضرة الأخت: ن. ع. م. س زادها الله من العلم والإِيمان وبارك لها في الوقت والعمل آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فقد وصلني كتابك الكريم وصلك الله بحبل الهدى والتوفيق، وجميع ما تضمنه من الأسئلة كان معلومًا.. وهذا جوابها:
أولاً: ذكرت: أنك متألمة كثيرًا من إِكراهك الوالدة على دخول المستشفى، وأنها تعبت فيه كثيرًا.
والجواب: لا حرج عليك في ذلك إِن شاء الله؛ لأنك مجتهدة وتريدين لها الخير والعافية وحصول أسباب الشفاء، ونرجو لك في ذلك عظيم الأجر وجزيل المثوبة، وأن يجمعك الله بها في دار الكرامة مع الوالد والأحبة .
ثانيًا: هل حق الوالدة أكبر من حق الوالد ؟
والجواب: لا شك أن حق الأم أعظم من حق الأب من وجوه كثيرة، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سائلاً قال:  يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحبتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك  ، وفي لفظ آخر أن السائل قال:  يا رسول الله من أبر؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أباك، ثم الأقرب فالأقرب  .
ثالثًا: ما صحة حديث الأعرابي أنه قال: يا رسول الله،
( الجزء رقم : 8، الصفحة رقم: 310)
 لم أجد شيئًا أثوبه لأمي؟ قال: صلِّ لها  ؟
والجواب: هذا الحديث لا أصل له، ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما نعلم، ولا يشرع لأحد أن يصلي عن أحد في أصح قولي العلماء إِلا ركعتي الطواف في حق من حج أو اعتمر عن غيره، وهكذا القراءة للغير والتسبيح والتهليل للغير تركه أولى؛ لعدم الدليل عليه، وإِنما يصلي الإِنسان ويقرأ ويسبح ويهلل ويذكر الله بأنواع الذكر من أجل طلب الثواب لنفسه.
أما الأموات من المسلمين الوالدة وغيرها فالمشروع: الدعاء لهم بالمغفرة والرحمة والعتق من النار، ومضاعفة الأجر، وقبول العمل، ورفع الدرجات في الجنة، ونحو ذلك من الدعوات الطيبة في الصلاة وغيرها، ومحل الدعاء في الصلاة: السجود، وفي آخر التحيات قبل السلام، سواء كانت الصلاة فريضة أو نافلة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:  فأما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فَقَمِنٌ أن يستجاب لكم  خرجه مسلم في صحيحه، وروى أيضًا مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:  أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء  .
ولما علم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه التحيات في آخر الصلاة قال:  ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إِليه فيدعو  ، وفي لفظ آخر قال عليه الصلاة والسلام:  ثم يتخير من المسألة ما شاء  متفق على صحته .
وكان صلى الله عليه وسلم يكرر الدعاء بين السجدتين بطلب المغفرة ويقول:  اللهم اغفر لي وارحمني واهدني واجبرني وارزقني وعافني  ، وكان عليه الصلاة والسلام يقول في سجوده:  اللهم اغفر لي ذنبي كله،
( الجزء رقم : 8، الصفحة رقم: 311)
دقه وجله، وأوله وآخره، وعلانيته وسره  خرجه مسلم في صحيحه .
ويشرع أيضًا الصدقة عن الميت ، الوالدة وغيرها؛ لما ثبت في الحديث الصحيح،  أن رجلاً قال: يا رسول الله، إِن أمي افتلتت نفسها ولم توص، وأظنها لو تكلمت تصدقت، أفلها أجر إِن تصدقت عنها؟ قال: نعم  ، وهذا أمر مجمع عليه بين أهل العلم، وهو انتفاع الأموات بالدعاء والصدقات، وهكذا ينتفع الميت بالحج عنه والعمرة، وبأداء ما عليه من الصوم، وبقضاء الدين عنه، والعتق عنه، والصلاة عليه صلاة الميت.
أما زيارة القبور فليس لها وقت مخصوص، لا يوم الجمعة ولا غيرها، بل يزورها الرجال متى تيسر ذلك في أي يوم، وفي أي ساعة من ليل أو نهار، وأما تخصيص بعض الناس الزيارة بيوم الجمعة فلا أصل له فيما نعلم من الشرع المطهر، وأما تحميلك إِخوانك نقل السلام على الوالدة فلا أعلم له أصلاً، والأحسن عندي: تركه، ويكفي منك الدعاء لها والصدقة عنها بما تيسر، كما تقدم بيان ذلك، ولا مانع من الحج لها والعمرة، وهما منك أفضل إِن شاء الله مع توكيل غيرك في ذلك، وإِذا كنت في مكةكفى الإِحرام بالعمرة من الحل كالتنعيم والجعرانة ولا حاجة إِلى الذهاب للميقات؛  لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عائشة أن تحرم بالعمرة من التنعيم  ، وهو أقرب الحل إِلى مكة .
أما قراءة سورة الكهف يوم الجمعة ؛ تقربًا إِلى الله سبحانه، وطلبًا لمغفرته فقد ورد في ذلك أحاديث فيها ضعف، وكان ابن عمر وأبو سعيد رضي الله عنهم، وهما أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يحافظان على قراءتها يوم الجمعة، فمن فعل ذلك فلا بأس، ولكن الأفضل عدم تثويبها
( الجزء رقم : 8، الصفحة رقم: 312)
لغيرك؛ لعدم الدليل على تثويب القراءة للغير كما تقدم.
وأما الأوراد الشرعية من الأذكار والدعوات الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالأفضل أن يؤتى بها في طرفي النهار بعد صلاة الفجر وصلاة العصر، وذلك أفضل من قراءة القرآن؛ لأنها عبادة مؤقتة تفوت بفوات وقتها، أما قراءة القرآن فوقتها واسع، ومن اشتغل بقراءة القرآن في طرفي النهار وترك الورد فلا بأس؛ لأنها كلها نافلة، والأمر في ذلك واسع، ولا حرج على الحائض والنفساء في أصح قولي العلماء في قراءة القرآن عن ظهر قلب، سواء كان في الورد أو غيره، أما الجنب فلا يقرأ شيئًا من القرآن حتى يغتسل ؛  لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يحجزه شيء عن القرآن إِلا الجنابة  ، أما مس المصحف فلا يجوز للحائض والنفساء والجنب ، ولا يجوز أيضًا للمحدث حدثًا أصغر كالريح والنوم حتى يتوضأ الوضوء الشرعي؛ لأحاديث وردت في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، أما تثويب الورد للغير فالأفضل تركه؛ لعدم الدليل عليه، وهكذا تثويب قراءة القرآن للغير الأفضل تركه، كما تقدم بيان ذلك؛ لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة رضي الله عنهم - فيما نعلم- ما يدل على تثويب القرآن أو الأذكار للغير، أما الدعاء والصدقات فأمرهما واسع، كما تقدم أيضًا الكلام في ذلك.
أما حديث أبي بن كعب رضي الله عنه الذي فيه أنه قال: يا رسول الله، كم أجعل لك من صلاتي؟.. إِلى آخره، فهو حديث في إِسناده ضعف، وعلى فرض صحته فقد ذكر شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله وغيره من أهل العلم أن المراد بذلك: الدعاء؛ لأن الدعاء يسمى: صلاة، قالوا: كان أُبي قد خصص وقتًا للدعاء، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم: كم يجعل
( الجزء رقم : 8، الصفحة رقم: 313)
له من ذلك؟... إِلى أن قال: أجعل لك صلاتي كلها، المعنى: أجعل دعائي كله صلاة عليك، يعني: في ذلك الوقت الذي خصصه للدعاء، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وما دام الحديث ليس صحيح الإِسناد فينبغي: أن لا يتكلف في تفسيره، ويكفينا أن نعلم أن الله سبحانه شرع لنا الصلاة والسلام على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، كما قال عز وجل:  إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا 
وجاءت الأحاديث الكثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم دالة على مشروعية الإِكثار من الصلاة والسلام عليه -عليه الصلاة والسلام-  وأن من صلى عليه واحدة صلى الله عليه بها عشرًا  ، فهذا كله يكفي في بيان شرعية الإِكثار من الصلاة والسلام عليه في سائر الأوقات من الليل والنهار خصوصًا أمام الدعاء، وبعد الأذان، وفي آخر الصلاة قبل السلام، وكلما مر ذكره صلى الله عليه وسلم.
وأما حديث:  من صلى علي يوم الجمعة مائة مرة جاء يوم القيامة ومعه نور لو قسم بين الخلق كلهم لوسعهم  فلا نعلم له أصلاً، بل هو من كذب الكذابين.
وأما كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: فقد جاء في الأحاديث الصحيحة عنه صلى الله عليه وسلم بيانها، وأقل ذلك أن يقول: اللهم صل وسلم على رسول الله أو: اللهم صل وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه، أو: اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه، أو: صلى الله عليك يا رسول الله، ونحو ذلك، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن كيفية الصلاة عليه، قال:  قولوا: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما
( الجزء رقم : 8، الصفحة رقم: 314)
صليت على آل إِبراهيم، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إِبراهيم في العالمين، إِنك حميد مجيد  ، وفي لفظ آخر قال:  قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إِبراهيم وعلى آل إِبراهيم، إِنك حميد مجيد  ، وفي لفظ عنه صلى الله عليه وسلم: أنه قال لهم لما أخبرهم بكيفية الصلاة، قال:  والسلام كما علمتم  يشير بذلك إِلى ما علمهم إِياه في التحيات، وهو قوله: " السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته "، وفي لفظ آخر عنه صلى الله عليه وسلم: أنه قال لهم:  قولوا: اللهم صل على محمد، وعلى أزواجه وذريته، كما صليت على آل إِبراهيم، وبارك على محمد، وعلى أزواجه وذريته، كما باركت على آل إِبراهيم، إِنك حميد مجيد  .
وهذه الكيفيات المذكورة هي أصح ما ورد عنه عليه الصلاة والسلام في كيفية الصلاة عليه، وهي كافية عما أحدثه الناس من أنواع الصلاة والسلام عليه - عليه الصلاة والسلام - وهي أفضل مما أحدثوا.
وأما حديث:  من صلى علي في يوم مائة مرة قضى الله له مائة حاجة سبعون منها لآخرته وثلاثون منها لدنياه  فلا نعلم له أصلاً، بل هو من كذب الكذابين.
أما تثويب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم للغير فلا أعلم له أصلاً عن السلف الصالح، والأفضل تركه.
وأما عرض الأعمال على الله سبحانه في يوم الاثنين والخميس فذلك ثابت عنه عليه الصلاة والسلام، وذلك  لما سئل صلى الله عليه وسلم عن صومه يومي الإِثنين والخميس قال: إِنهما يومان تعرض فيهما الأعمال على الله، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم  ، وصومهما أفضل من صوم الجمعة، بل صوم يوم الجمعة وحده منهي عنه إِلا إِذا صام معه
( الجزء رقم : 8، الصفحة رقم: 315)
يومًا قبله أو يوما بعده.
وأما الدعاء: فهو مشروع في الصلاة في الفريضة والنافلة ، كما أنه مشروع في خارجها، وفي كل وقت، ويستحب للداعي أن يسأل ربه حاجاته كلها، حاجات الدنيا وحاجات الآخرة، ويشرع ذلك في الصلاة وخارجها، والأفضل: أن يكون ذلك في السجود، وفي آخر الصلاة قبل السلام؛ لأحاديث صحيحة وردت في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، والمشروع العناية بالدعاء المتعلق بالآخرة أكثر، وهكذا الدعوات الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من غيرها.
وأما الصلوات المشروعة مع الفرائض فهي: أربع ركعات قبل الظهر بتسليمتين، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل صلاة الصبح، فهذه اثنتا عشرة ركعة في ست تسليمات كلها نوافل، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحافظ عليها في الحضر، وتسمى: الرواتب، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:  من صلى اثنتي عشرة ركعة في يومه وليلته تطوعًا بني له بها بيتًا في الجنة  خرجه مسلم في صحيحه، ورواه الترمذي رحمه الله في سننه ، وزاد:  أربعًا قبل الظهر، وثنتين بعدها، وثنتين بعد صلاة المغرب، وثنتين بعد صلاة العشاء، وثنتين قبل صلاة الصبح  ، وإِن صلى أربعًا بعد الظهر وأربعًا قبلها كان أفضل؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أم حبيبة رضي الله عنها، أنه صلى الله عليه وسلم قال:  من حافظ على أربع قبل الظهر وأربع بعدها حرمه الله تعالى على النار  خرجه أحمد، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، وهذا كله إِذا كان الإِنسان في الحضر، أما في السفر فكان النبي صلى الله عليه وسلم يترك سنة الظهر وسنة المغرب وسنة العشاء، ويحافظ على سنة الفجر والوتر، وكان عليه الصلاة والسلام
( الجزء رقم : 8، الصفحة رقم: 316)
في السفر والحضر يتهجد بالليل ويتنوع وتره، فربما أوتر بثلاث، وربما أوتر بخمس، وربما أوتر بسبع، وربما أوتر بتسع، وربما أوتر بإِحدى عشرة، وهو الأكثر من فعله عليه الصلاة والسلام، وربما أوتر بثلاث عشرة، ولم يحفظ عنه عليه الصلاة والسلام أكثر من ذلك فيما نعلم، ولكن عليه الصلاة والسلام لم ينه عن الزيادة على ثلاث عشرة، وكان يُرَغِّب في صلاة الليل ويقول: صلاة الليل مثنى مثنى، فإِذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى  .
فدل ذلك على أنه لا حرج في الزيادة على ثلاث عشرة في رمضان وفي غيره، فمن صلى عشرين ركعة أو أكثر من ذلك فلا بأس، وكان عليه الصلاة والسلام يطمئن في صلاته ويخشع فيها، ويرتل القراءة ولا يعجل، وكان عليه الصلاة والسلام ربما أوتر في أول الليل، وربما أوتر في وسطه، وربما أوتر في آخره، وقالت عائشة رضي الله عنها:  إِنه استقر وتره في آخر الليل ، وهذا في حق من تيسر له ذلك، أما من خاف أن لا يقوم آخر الليل، فالأفضل أن يوتر في أول الليل، وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم أبا هريرة وأبا الدرداء أن يوترا في أول الليل، كما أوصاهما بصلاة الضحى وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:  من خاف أن لا يقوم في آخر الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم في آخر الليل فليوتر آخره، فإِن صلاة الليل مشهودة، وذلك أفضل  خرجه مسلم في صحيحه .
وأسأل الله أن يمنحنا وإِياك وسائر المسلمين الفقه في الدين والثبات عليه، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا، وأن يتوفانا جميعًا على الإِسلام، إِنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أرشيف المدونة الإلكترونية