الاثنين، 23 مارس 2015

الشيخ ابو معاذ محمد مرابط حفظه الله تعالى

المؤلف: 
أبو معاذ محمد مرابط
بسم الله الرحمن الرحيم
حمم البراكين على شاتم رسول رب العالمين
إني لأرخص دون عرضك مهجتي.... روحٌ تروح ولا يمس حماك
شـلت يمين صورتـك وجمـدت....وسط العروق دماء من آذاك
الحمد لله القائل في كتابه {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}، والقائل مخبرا عن نبيّه صلى الله عليه وسلم{وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}، الذي امتنّ سبحانه على عبادة بنبيّ الرحمة فقال: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم}. وأوجب طاعته وحذر من مخالفته فقال {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم}.
ثم الصلاة والسلام على صاحب الخلّة والشفاعة، محمد بن عبد الله أشرف الخلائق إلى قيام الساعة، القائل: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع وأول مشفَّع» (1)، والقائل: «والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي، ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلتُ به، إلا كان من أصحاب النار» (2) ، فاللهم صلّ وبارك على عبدك وخليلك محمد وعلى آله الطيبين الأطهار، وصحابته المنتجبين الأخيار، وسلم تسليما مزيدا.
ثم أما بعد:
لقد فجع المسلمون في نبيّهم صلى الله عليه وسلم، وهذا بعدما تطاولت زمرة من الخنازير البشرية في بلاد فرنسا على عرض نبيّ الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم في مجلّتهم (شارلي إيبدوا)، وتواطأت الأغلبية الساحقة من الفرنسيين حكومة وشعبا على هذه الجريمة الشنعاء و الفعلة النكراء.
فإليهم وإلى كل من وافق وأيد أبعث بهذه الرسالة نصرة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولا أعني بها إخواننا المسلمين من تلك البلاد، بل حتى الكفار الذين لم يوافقوا ورفضوا تلك الخرجة الحاقدة . وهذا من الانصاف الذي فرض علينا، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن أعظم الناس عند الله فرية: لرجل هاجى رجلا فهجا القبيلة بأسرها، ورجل انتفى من أبيه وزنّى أمّه» (3).
فاتحة الحمم:
لقد تنامت أحقاد عُبّاد الصليب، ووجّهت نبالهم لعرض نبيّنا الحبيب صلى الله عليه وسلم، فقضوا أوقاتهم في العويل والنحيب، والتحق بهم كل تعيس وشقي وكئيب.
إنها غربان فرنسا الجائعة، التي لا تأنف عن ملئ بطنها من عذرة الكلاب، لأن أقصى ما تأمله في دنياها أنفاس تضمن لها عيش البؤس والشقاء.
فيا أمة الخنى والزنا، ويا أمة العصور الوسطى المظلمة التي لم تعرف عصر الازدهار إلاّ بعد القرن السادس عشر! ما أحوجكم لِلُويس آخر! يذكركم بصنائع سلطانكم لويس الرابع عشر، الذي أذل رقابكم وأرغم أنوفكم، وكان يقول: (أنا الدولة والدولة أنا!)، وهي بذرة الديمقراطية المنحرفة التي صدعتم بها رؤوسنا اليوم كذبا وفجورا!.
نعم! ما أحوجكم لسياسته الفرعونية التي جثم بها على صدوركم أربعا وخمسين سنة، وملك رقابكم وعمره خمس سنوات!! وبذلك دخلتم تاريخ الذلة والمسكنة من أوسع أبوابه، لقد اكتشف خساسة طباعكم فسامكم سوء العذاب، وأجبر الكثيرين منكم على ترك ديانتهم، لاسيما البروتستانت، فاعتنق مئات الألوف مذهب الأغلبية رغما عنهم؟ وهرب من حكمه-كما شهدت كتبكم- ثلاثمائة ألف فرنسي!! جلّهم من المثقفين!، وهي الحقيقة التي أثبتتها تواريخكم، ونطقت بها ألسنتكم.
يا أمة الظلم ويا دولة البغي! تتحدثون عن الإرهاب وفي أرضكم غرست بذرته، وتدعون نبذ الإجرام ومن تحت سمائكم نُسجت خيوطه، وتزعمون أنكم أرباب الحريات وسادات الديمقراطية! وكأن العالم خلى من عارف بتاريخكم !
لن نذكر ماضيكم الأسود على أرض الجزائر! لأنه وبكل بساطة قد أضحى عنوانكم الذي تعرفون به، فما فعلتموه بالمسلمين على أرضهم يشبه الخيال الذي أذهل العالم! وبقي راسخا في ذاكرة التاريخ، وسيبقى!
إنما نحدثكم بهول الحقائق التي تسعون لإخفائها لأنها تبرز جاهليتكم المقيتة، وانحطاطكم الأخلاقي وحضارتكم المزيفة الحديثة، التي من عرف شيئا منها أدرك وتيقن أنكم كلاب كلِبة استوطنت الغاب فخرجت فجأة حتى تفسد في دنيا الناس.
يا أمة الشذوذ! قد نبتت أشواككم في أرض الحروب والمعارك العنصرية والدينية، حتى خشي مؤرخكم الفرنسي الشهير فرناند بروديل في نهاية حياته (ت: 1985!!) أن تعود تلك الحرب المذهبية إلى فرنسا! بعدما أنهكتكم الصراعات الكاثوليكية البروتستانتية لمدة قرنين من الزمان؟!، ويومها لم يكن يطرح على موائد نقاشاتكم مشكل الإسلام والإرهاب .
بل إلى وقت قريب يا أراذل أوروبا كادت رياح الحروب السياسية بين المعسكر الشيوعي والمعسكر الرأسمالي تقلع جذور دولتكم التافهة؟ ولازلتم تعانون من آثارها إلى يومنا هذا، ولكن بخبث سياسي تكتمون صيحاتكم.
يا أمة العار نصبتم أنفسكم حماة للحرية والعدالة، والكل يعلم أن الظلم والاضطهاد خرج من جحوركم! وعقلاء المعمورة يدركون سبب تشريعكم لقانون تجريم العداء لليهود الذي عُرف بقانون معاداة السامية، ويومها لم يكن الإسلام ليذكر لأنه وبكل بساطة كان أهله يتفرجون بكل دهشة على مجازر النصارى التي قاموا بها في حق إخوان القردة والخنازير، وكان هذا في حدود القرن التاسع عشر.
وهذا كاتبكم المشهور جارودي ألقيتموه في السجن وهو من أكبر كتابكم بسبب إنكاره للمحرقة النازية لليهود! فأين هي الحريات والديمقراطية الغوغائية ؟!التي أطلقتم لها العنان عندما تعلق الأمر برسول البشرية محمد صلى الله عليه وسلم.
يا أمة الغباء –وبه عرفتم في أوروبا- تجتهدون ليل نهار لتشويه صورة الإسلام والمسلمين وتزعمون أن الإسلام يحث على كراهية اليهود ويأمر باجتثاثهم! ولكن نور الحقيقة ينجلي لمن رزق ذاكرة ومعرفة بتاريخكم المخزي
فإلى وقت قريب جدا وتحديدا في سنة: 2003 وقع استفتاء أوروبي اهتزت له الدنيا، خلص إلى أن (59 %) من الأوروبيين يرون أن اليهود يشكلون خطرا على السلام العالمي، وارتجت الدنيا لهذه النتيجة! ووقعت بسببها زوبعة كبيرة من الانتقادات، حتى اتخذ اليهود موقفا من دولة فرنسا الفاجرة واتهموها يومها بمعاداتهم، وهو ما يفسر المناورات الفرنسية منذ ذلك الوقت لإرضائهم. (4).
واقعة شارلي إيبدو
هي واقعة حُقّ للمؤرخ المعاصر أن يدوّنها في سجل التاريخ الحديث، ويصنف فيها صحفا وكتبا تقييد وقائعها، كيف لا؟! وقد شهدت تعدّي أبناء الزنا على أشرف الخلق وأفضل الرسل، نبينا وحبيبنا خليل الرحمن محمد صلى الله عليه وسلم ؟!
وعلى الأجيال أن تدرك أن فرنسا تتبنّى الحرية ولا تلدها! وتنكر النازية وتأويها!! فتتظاهر بمعاقبة من يرسم رجلا أسودا وهو يمسك حبة موز، وتعتبر ذلك من العصبية المنهي عنها، والعنصرية التي يعاقب عليها القانون، ثم تترك هذه الدولة الماجنة كلابها تنتقص من عرض سيّد الخلق صلى الله عليه وسلم الذي لولا الغباء الذي عرف عن الفرنسيين لما سمحوا بأن يمسّ عرض نبي من الأنبياء تعظمه دول وأمم تربطها علاقات وطيدة بها!!، ولو لا الغباء لما سمحت فرنسا بذلك التهجم الفاجر وفي أرضها يوجد أكثر من خمسة ملايين مسلم! فيهم الجاهل والمندفع وصنوف أخرى من العقليات التي قد تثور في أي لحظة انتقاما لرسولها صلى الله عليه وسلم.
فهذه هي الحريات المزيفة التي يريد الفرنسيون نشرها، وهم بهذا -لفرط غبائهم- يحاولون إظهار أنفسهم أنهم أشد حرصا على الديمقراطية من بريطانيا وأمريكا، وغيرها من الدول الكافرة التي كانت أكثر ذكاء من بني العهر .
إن تعرض مجلة الكفر والزندقة لعرض حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم يعد من نوائب الدهر التي زلزلت أفئدة المسلمين، فتألم منها الرضيع في مهده، وتحرك لهولها أضعف الناس غيرة على دين الإسلام.
فلو تخلص الفرنسيون من عقدة الحقد والعداء لدين الله سبحانه،لأخذوا بقول المنصفين من فلاسفتهم الذين أنصفوا الإسلام، وقالوا كلمة الحق في نبينا صلى الله عليه وسلم!.
فهذا المفكر الفرنسي لمارتين الشهير يقول: (محمد هو النبي الفيلسوف الخطيب المشرع المحارب قاهر الأهواء وبالنظر لكل مقاييس العظمة البشرية أود أن أتساءل هل هناك من هو أعظم من النبي محمد )!، ويقول المؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون : (إن محمدا هو أعظم رجال التاريخ ).
فهذا والله من إكرام الله سبحانه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، حيث أخرج من صلب أعدائه من يشهد له بمثل هذه الشهادات، التي تكسر غرور الأفاكين من بني جلدتهم.
واقعة عسّاف (و) النصراني سابّ النبي صلى الله عليه
لقد شهد تاريخ الإسلام واقعة مماثلة لهذه الفاجعة التي نتحدث عنها، لكن من أعظم المفارقات بين واقعة الأمس وواقعة اليوم أن الأولى كان لها رجال! وأي رجال؟! إنه ابن تيمية الحرّاني!!
إنها من الأحداث العظيمة التي كانت لها تداعيات كثيرة وكبيرة، ويكفي منها أن يكون كتاب الصارم المسلول على شاتم الرسول لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من آثارها.
بقول الحافظ ابن كثير رحمه الله (البداية والنهاية 17 / 665-666 ط.المعرفة) وهو يذكر حوادث سنة 693:
كان هذا الرجل من أهل السويداء قد شهد عليه جماعة أنه سب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد استجار عساف هذا بابن أحمد بن حجي أمير آل علي، فاجتمع الشيخ تقي الدين ابن تيمية، والشيخ زين الدين الفارقيّ شيخ دار الحديث، فدخلا على الأمير عز الدين أيْبَك الحموي نائب السلطنة، فكلماه في أمره، فأجابهما إلى ذلك، وأرسل ليحضره، فخرجا من عنده ومعهما خلق كثير من الناس، فرأى الناس عسَّافًا حين قدم ومعه رجل من العرب، فسبوه وشتموه، فقال ذلك الرجل البدوي: هو خير منكم. يعني النصراني، فرجمهما الناس بالحجارة، وأصابت عسّافا، ووقعت خبطة قوية، فأرسل النائب، فطلب الشيخين ابن تيمية والفارقي، فضربهما بين يديه، ورسم عليهما في العَذْراوِية، وقدِم النصراني، فأسلم وعقد مجلس بسببه، وأثبت بينه وبين الشهود عداوة، فحقن دمه، ثم استدعى بالشيخين فأرضاهما وأطلقهما، ولحق النصراني بعد ذلك ببلاد الحجاز، فاتفق قتله قريبا من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتله ابن أخيه هنالك، وصنف الشيخ تقي الدين ابن تيمية في هذه الواقعة كتابه "الصارم المسلول على ساب الرسول". اهـ
وقبل أن أذكر بعض الفوائد المهمة التي نستخلصها من هذه الواقعة، أنقل جزءا مهما من مقدمة الإمام ابن تيمية رحمه الله على كتابه الصارم، حتى أضم فوائده لفوائد نص ابن كثير رحمه الله ، فهو في غاية الأهمية.
قال رحمه الله (الصارم المسلوم 2/8-9 ط. رمادي):
(فاقتضاني لحادث حدث أدنى ماله من الحق علينا بل هو ما أوجب الله من تعزيزه ونصره بكل طريق وإيثاره بالنفس والمال في كل موطن وحفظه وحمايته من كل موذ وإن كان الله قد أغنى رسوله عن نصر الخلق ولكن ليبلوا بعضكم ببعض وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب ليحق الجزاء على الأعمال كما سبق في أم الكتاب أن أذكر ما شرع من العقوبة لمن سب النبي صلى الله عليه وسلم من مسلم وكافر وتوابع ذلك ذكرا يتضمن الحكم والدليل وأنقل ما حضرني في ذلك من الأقاويل وأردف القول بحظه من التعليل وبيان ما يجب أن يكون عليه التعويل وأما ما يقدره الله عليه من العقوبات فلا يكاد يأتي عليه التفصيل وإنما المقصد هاهنا بيان الحكم الشرعي الذي يفتى به المفتي ويقضي به القاضي ويجب على كل واحد من الأئمة والأمة القيام بما أمكن منه والله هو الهادي إلى سواء السبيل).
ما يستخلص من الواقعة
أولا:
الردّ على مزاعم القائلين بأنه لا حاجة بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى نصرتنا لأن الله عز وجل قد تكفل بذلك.
ومن تأمل في صنيع شيخ الإسلام رحمه الله يجده يرد على هذا الزعم ويفنّده، فقد قام رحمه الله قومة الأسد من عرينه نصرة للحبيب الشفيع عليه الصلاة والسلام، وتابعه إخوانه من أهل الغيرة، ولا نشك أنه رحمه الله كان من أعلم الناس بالقرآن، ومن أفقه الأمة بمعانيه، فكيف غاب عنه قوله تعالى {إنا كفيناك المستهزئين}، وهي الآية التي يضعها اليوم الكثير من المتكلمين في غير موضعها.
قال رحمه الله في كلامه السابق: (وإن كان الله قد أغنى رسوله عن نصر الخلق ولكن ليبلوا بعضكم ببعض وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب).
ومن نظر في سيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، علم أن اعتقادهم بأن الله سبحانه حافظ لنبيّه صلى الله عليه وسلم، لم يمنعهم من بذل الغالي والرخيص في سبيل نصرته صلى الله عليه وسلم والدفاع عنه، وعلى خطاهم سار التابعون لهم بإحسان.
ثانيا:
لقد جانب فئام من الناس سبيل أهل الحق، وخصصوا جلّ كلامهم في التحذير من الخوارج الذين نفذوا الهجوم على مقر المجلة الكافرة، وغفلوا عن جريمة أعداء رسولنا صلى الله عليه وسلم، ولم يتعرضوا لهم ولو بكلمة!!. طبعا من غير قصد منهم .
فهذا شيخ الإسلام رحمه الله يكتب كتابه الذي كان على الأمة فتحا ونصرا، ولم يكتب على الذين قتلوا ورجموا الكافر الخبيث! وأكثر من هذا لم يذكر رحمه الله فعلتهم حتى في كتابه! فقال رحمه الله: (فاقتضاني لحادث حدث أدنى ماله من الحق علينا بل هو ما أوجب الله من تعزيزه ونصره) فانظر رحمك الله في قوله:( فاقتضاني لحادث حدث)! حتى تقف على سعة علمه رحمه الله ومدى تقديره للمصالح والمفاسد.
وشبيه بهذا صنيع الإمام ابن القيم رحمه الله الذي ألف سِفره العظيم (هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى) ردّا على كلاب النصارى الذي تعرضوا للإسلام ولرسول الله صلى الله عليه وسلم بالثلب والوقيعة! فقال رحمه الله في مقدمته (هداية الحيارى ص: 20-21 ):
(وكان انتهى إلينا مسائل أوردها بعض الكفار الملحدين على بعض المسلمين فلم يصادف عنده ما يشفيه ولا وقع دواؤه على الداء الذي فيه، وظن المسلم أنه بضربه يداويه فسطا به ضربا وقال: هذا هو الجواب! فقال الكافر صدق أصحابنا في قولهم: إن دين الإسلام إنما قام بالسيف لا بالكتاب، فتفرّقا وهذا ضارب وهذا مضروب وضاعت الحجة بين الطالب والمطلوب، فشمّر المجيب ساعد العزم ونهض على ساق الجد ...)
فأنت ترى أيها اللبيب الغيور أن الإمام ابن القيم رحمه الله لم يصب جام غضبه على المسلم الذي ضرب النصارني، بل اكتفى بإشارة يسيرة إلى المفسدة التي ارتكبها المسلم، ولم يدفعه رحمه الله فعل الضارب المخالف للشرع إلى نسيان جريمة النصارى الذين كانوا دائما سباقين إلى الطعن في الإسلام، فألف رحمه الله كتابه في الرد عليهم وليس في الرد على المسلم.
ثالثا:
من المواقف التي اتخذها البعض في الآونة الأخيرة ونشرها باسم الدعوة السلفية ! إنكاره على من ابتهج فرحا بمقتل الكفرة سَبابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حيث ذهب يشنع عليهم وكأن الحزن ملك فؤاده على مقتل زبالة البشر! ولو أعمل هذا الرجل فكره قبل أن ينكر على غيره، لتفطن إلى الفرق الجوهري بين الفرح بتلك العملية المخالفة لمنهج أهل الحق، وبين الفرح لهلاك زمرة الرسامين المستهزئين برسول الله صلى الله عليه وسلم .
يقول الحافظ الذهبي رحمه الله وهو يتكلم عن واقعة شيخ الإسلام (تاريخ الإسلام 52/ 222ط. الكتاب العربي): (وأما عساف فقتله بقرب المدينة النبوية في ربيع الأول من هذه السنة ابن أخيه جماز بن سليمان، وفرح الناس.....)
مع أن عسافا هذا لم يسب النبي صلى الله عليه وسلم بل دافع عن السابّ النصراني ! فكان الحال كما قال الذهبي: ففرح الناس! وهذا أمر نفسي لا تحكّم فيه قد جبلت عليه نفوس أهل الإيمان.
وسبحان من وهب العقول كما وهب الأرزاق ! كيف غاب عن ذهن هذا المنِكر قوله تعالى {الم ، غلبت الرّوم فِي أدنى الأَرْض وهم من بعد غلبهم سيغلبون فِي بضع سِنِين لله الْأَمر من قبل وَمن بعد ويومئذ يفرح الْمُؤْمِنُونَ بنصر الله}، ومن عرف أن سبب هذا الفرح هو تغلب الروم على الفرس! علم أن هذا الفرح لا يقتضي الرضى بعقائد الروم وديانتهم! وهذا الموضع في غاية الوضوح.
يقول الحافظ ابن كثير – رحمه الله– (البداية والنهاية 6/793): (فيمن توفي سنة 568 هـ الحسن بن ضافي بن بزدن التركي ، كان من أكابر أمراء بغداد المتحكمين في الدولة، ولكنه كان رافضيّاً خبيثاً متعصباً للروافض ، وكانوا في خفارته وجاهه ، حتى أراح الله المسلمين منه في هذه السنَة في ذي الحجة منها ، ودفن بداره ، ثم نقل إلى مقابر قريش ، فلله الحمد والمنَّة .وحين مات فرح أهل السنة بموته فرحاً شديداً، وأظهروا الشكر لله ، فلا تجد أحداً منهم إلا يحمد الله)، فهذا هو الشاهد: حتى أراح الله المسلمين منه!
وإن من التطفيف في ميزان النقد والتقويم: أن نفرح بهلاك ابن لادن على أيدي الأمريكان! ونسوق الأدلة من نصوص الكتاب والسنة، وآثار السلف، حتى نثبت مشروعية الفرحة بمقتل ابن لادن أو الزرقاوي، ثم نقلب القضية رأسا على عقب عندما تأتي واقعة أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم! وكأن تعدي الأمريكان على بلاد المسلمين ضرورة محتومة.
رابعا:
أن الفرح بهلاك أعداء الأنبياء والرسل لا يستلزم الرضى بأعمال الغوغاء من الخوارج وغيرهم من جهلة المسلمين! بل كل عاقل يدرك أن منهج أهل السنة يستشنع تلكم الأفعال، لا لأن الكافر الخبيث لا يستحق القتل، بل بسبب الآثار السيئة المترتبة على ذلك التصرف، وقد مر بنا أن شيخ الإسلام رحمه الله ضُرب وسجن لا لأنه أنكر جريمة النصراني! بل لأن العامة أحدثت فتنة وضربت الجاني، فنسب تصرفهم لشيخ الإسلام رحمه الله.
وإلى الله نشكو صنائع كلاب النار من الخوارج المارقين، فلاهم نصروا الإسلام، ولا هم كسروا أعداءه، فكم عانت الأمة الإسلامية من سوء فعالهم وفعال كل أصحاب العواطف الجياشة الذين لا ينقادون لشرع، ولا يحتكمون لعقل .
ومع كل هذا فالحق لابد من الصدع به: فجريمة سب رسول الله صلى الله عليه وسلم أشنع و أفضع، ولا وجه للمقارنة بين المفسدتين، ومن الخطأ أن نغفل عن حقيقة مهمة وهي أن تعدّي الخوارج وغيرهم من الجهلة كثيرا ما يكون ردة فعل معبرة عن سخطهم ومقتهم، ومن عاد أدراج التاريخ أدرك هذا .
خامسا:
قال الحافظ ابن كثير حمه الله: (فرأى الناس عسَّافًا حين قدم ومعه رجل من العرب، فسبوه وشتموه، فقال ذلك الرجل البدوي: هو خير منكم. يعني النصراني، فرجمهما الناس بالحجارة..) !!
فمما يستخرج من القصة أن الأعرابي المدافع عن النصراني الخبيث عومل بنفس معاملة السابّ! ونظر إليه المسلمون في ذلك الوقت نظرة مقت وازدراء، وهو ما يذكرنا بطبقة كبيرة من المنافقين المدسوسين في أوساط المجتمعات الإسلامية، وهم كالعقارب المغروسة في الرمال! فلا تشعر إلا وهم يقفون في صفوف أعداء الله من الطاعنين في دين الإسلام وفي نبيّ خير الأنام صلى الله عليه وسلم. بدعوات موبوءة، يحتجون في مواقفهم المخزية بصنم (حرية الرأي).
سادسا:
أن ولي الأمر هو المسؤول -أولا وآخرا- عن محاكمة ومعاقبة كل من طال لسانه، ونال من دين الإسلام العظيم، وقد مرّ في القصة أن أول ما قام به شيخ الإسلام رحمه الله ومن معه، التوجه إلى السلطان، لأن شؤون الناس لا تنتظم إلا بذلك، وبلزوم هذا الطريق يسود الأمن والأمان، ولو ترك الخوض في هذه الفتن إلى عواطف الناس لخلت الدور، ولملئت القبور، وكما قال شيخ الإسلام (منهاج السنة 4 / 343): (والفتنة إذا وقعت عجز العقلاء فيها عن دفع السفهاء.... وإذا وقعت الفتنة لم يسلم من التلوث بها إلا من عصمه الله).
سابعا:
أن من أعظم ما نخرج به من تلك الواقعة وجوب تغيير هذا المنكر الشنيع، وسلوك كافة الطرق المشروعة لإنكاره وبيان خطره، ومن أنفع تلك الطرق: حث وليّ الأمر على معاقبة أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم. والأخذ بالحزم في إذلالهم وتحقيرهم.
فهذا شيخ الإسلام قام ناصحا لولي الأمر رفقة جماعة من الصالحين والعوام ، وقد ضرب وسجن رحمه الله من أجل موقفه هذا، وختم هذا الموقف المشرف بتأليف كتاب الصارم المسلول الذي بقي آية من آيات الله الدالة على إكرامه سبحانه لهذه الأمة.
ومن كلامه رحمه في مقدمته: (ويجب على كل واحد من الأئمة والأمة القيام بما أمكن منه والله هو الهادي إلى سواء السبيل)
ولا ريب أن سكوت أهل الحق في مثل هذه الحوادث المهولة يجعل نفوس الناس تألف مطاعن الكافرين في رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويربي فيهم عدم الاكتراث لعرضه صلى الله عليه وسلم، فلذا وجب الصدع بالحق. وتحتم على الجميع بيان حكم الله في مقترف هذا الكفر المبين.
يقول ابن القيم رحمه الله في (هداية الحيارى ص: 20 ): (ومن بعض حقوق الله على عبده، ردّ الطاعنين على كتابه ورسوله ودينه ومجاهدتهم بالحجة والبيان والسيف والسنان والقلب والجنان وليس وراء ذلك حبّة خردل من الإيمان)
وإن من الأمثلة المعاصرة التي تؤكد ما تقرر سابقا من وجوب تغيير المنكر في مثل هذه النوازل الخطيرة، وتفرض على الداعية الصدع بالحق، ما قام به سماحة الشيخ الإمام ابن باز رحمه الله من انتصار عظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وما بذله من انتقاد حازم، وردّ جليل على أحد المتطاولين على شرف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول رحمه الله تحت عنوان:
حكم من استهزأ بالرسول العظيم عليه الصلاة والسلام أو سبه أو تنقصه أو استحل شيئا مما حرمه
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله لقد اطلعت على ما نشرته صحيفة صوت الإسلام بالقاهرة نقلا عن صحيفة المساء المصرية الصادرة في 29 يناير الماضي من الجرأة على الجناب الرفيع والمقام العظيم مقام سيدنا وإمامنا: محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا بتمثيله بحيوان من أدنى الحيوانات، وهو الديك، لا يشك مسلم أن هذا التمثيل كفر بواح، وإلحاد سافر واستهزاء صريح بمقام سيد الأولين والآخرين ورسول رب العالمين وقائد الغر المحجلين، إنها لجرأة تحزن كل مسلم، وتدمي قلب كل مؤمن، وتوجب اللعنة والعار والخلود في النار، وغضب العزيز الجبار، والخروج من دائرة الإسلام والإيمان إلى حيز الشرك والنفاق والكفران لمن قالها أو رضي بها...)
طيب الله قبر الإمام!، انظروا رحمكم الله إلى هذا الفيض من الغيرة والحميّة لعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم!! فنرجوا من الله سبحانه أن يبعث شيئا من هذه الغيرة في قلوب المؤمنين، فقد أصبحت في يومنا هذا أعز وأغلى وأنفس مأمول.
فلم يقل رحمه الله: رسول الله صلى الله عليه وسلم غني عن نصرتنا، وأن الله قد كفاه أذية الكافرين
ولم يقل: إن هذا من التشهير بجريدة لا تستحق التهويل.
ولم يقل: إن منزلة النبي صلى الله عليه وسلم في قلوب المؤمنين لا يطالها أحد! فلا داعي لتضخيم المشكلة!!
ولم يقل: إن الطعن في النبي صلى الله عليه وسلم شيء معهود! وقد عرف به أعداء الرسل منذ القديم وليس هو بالأمر الجديد!
نعم! لم يقل هذا ولا ذاك من الأقوال التي ملأت أسماعنا اليوم!! و لم يفكر في شيء من تلك الأفكار الوافدة على منهجنا ! لأن خشيته من ربه سبحانه دفعته لتبصير الأمة الإسلامية بخطورة ما يراد بها، فبقي ردّه هذا تاريخا يروى، وشاهدا يذكر صدقه وإخلاصه في اتباعه للنبي صلى الله عليه وسلم .
ختام الحمم:
اللهم إنّك تعلم حبنا لرسولك محمد صلى الله عليه وسلم وتعظيمنا لجنابه، وتعلم ضعفنا وقلة حيلتنا، فاللهم اغفر لنا وتجاوز عن تقصيرنا.
اللهم عليك بمن تطاول على المقام الرفيع، اللهم خذهم أخذ عاد وثمود، وأرنا فيه ما أنزلته بفرعون وقارون والنمرود. والحمد لله رب العالمين.
أبو معاذ محمد مرابط
صبيحة الإثنين
28 ربيع الأول 1436
الهامش:
(1)-(صحيح مسلم 2278)
(2)- (صحيح مسلم240)
(3)- (رواه ابن ماجة 3761 وصححه الألباني).
(4)- المقام لا يسمح بذكر مصادر كل هذه الحقائق التاريخية، وفي الخاطر فكرة كتابة مقال مستقل في هذا الجانب المهم.
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أرشيف المدونة الإلكترونية